مداخلة النائب الدكتور علي فياض بدعوة من منتدى الفكر اللبناني

كلمات مفتاحية: لقاءات وانشطة

التفاصيل

في البدء أعتقد انه من الضروري التأكيد على أن لا حاجة لتكرار الحديث عما بات معروفاً وبديهياً, حول التوحش المفرط للعدو الاسرائيلي وحول الشراكة الاميركية الكاملة في مسؤولية جرائم الابادة ضد الشعب الفلسطيني, وحول الانهيار المدوي لمنظومة القيم الغربية الاخلاقية والسياسية والقانونية في الحرية وحقوق الانسان والديموقراطية وسيادة القانون وحق تقرير المصير والقانون الدولي الانساني والامن والسلم الدوليين, والى كل هذه المقولات التي بدت فارغة من أي معنى ، عندما تعلق الامر بالغرب وحلفائه الاسرائيليين.

نحن بحاجة, وان كنا لا زلنا في قلب المعركة وهي لم تضع اوزارها بعد ,الى مقاربتين : الاولى: تتصل بتحديد الموقف بالاستناد الى سياق المجريات الراهنة والتوقعات المنتظرة .والثانية :  تتصل باعادة تقويم نظرية المقاومة بالاستناد الى دروس سبعة أوكتوبر وما بعدها.

قبل ذلك لا بد من التشديد على التقديرات الاولية التالية : 

إن عملية طوفان الاقصى في السابع من اوكتوبر , وما أعقبها من حرب في غزة ومعارك وعمليات في الساحات الاخرى, فتحت مرحلة جديدة لن تكون كما قبلها, بالنسب لكلا الطرفين المتحاربين, المقاومة بتشكيلاتها العديدة, والعدو الاسرائيلي, وكذلك الامر بالنسبة للأميركيين وحلفائهم.

إن  هؤلاء كلا ً من موقعه, لن يكون قادراً على الاكتفاء بالستاتيكو الذي كان قائماً, ثمة معطى جوهري دخل على المشهد الفلسطيني – الاسرائيلي, أنتج تحولاً نوعياً وهو سيفرض على القوى المعنية بالصراع أن تت ك يف معه وتعيد تقييم تموضعها في المعادلات الجديدة. 

إن أميركا ستندفع جدي اً باتجاه حل الدولتين, بوصفه الحل الوحيد لاحتواء الآثار التفجيرية للقضية الفلسطينية وتهديدها لوجود اسرائيل وللمصالح الامريكية.

اما اسرائيل, التي وجدت نفسها للمرة الاولى في مواجهة مخاطر داخل كيانها الغاصب , تسقط على نحو مدوّ  حاجز الردع وتهدد أمن المستوطنات والكيان, وتقدم نموذجاً لمواجهات محتملة مستقبلاً أكثر اتساعاً وأعمق تأثير اً, فانها على مفترق خيارات استراتيجية. 

إما ان ترضخ كارهة لحلول لم تكن واردة في حسبانها من قبل, مثل حل الدولتين, كما يقدر رئيس الوزراء السابق " ايهودا باراك " ورئيس الشاباك السابق "أيالون" كإستجابة براغماتية لانقاذ الكيان في غياب البدائل التي أثبتت فشلها .

وإما ان تندفع في مغامرة مجنونة بفعل الهوس الايديولوجي ووطأة الاتجاهات اليمينية والدينية المتطرفة، للتمسك بالقيمة التوراتية للضفة الغربية, ولخوض مرحلة تصعيد خطيرة تؤدي الى تداعيات متلاحقة وصراعات متقطعة وحروب متدحرجة.

أ ما المقاومة الفلسطينية وفي طليعتها حماس التي تستند الى إنجازها التاريخي في عملية طوفان الاقصى والمواجهات البطولية التي تخوضها هي والفصائل الاخرى, فإنها ستواجه تحديات مرحلة استثنائية ، بدءاً من إعادة الاعمار وتأمين مقومات الحياة في غزة وإزالة آثار الحرب ، مروراً باستهداف دورها كسلطة, وصولاً الى الكيفية التي ستقدم فيهاإجاباتها على مسار سياسي تسووي في ظل ضغوطات دولية لحل الدولتين ومواءمة تلك الاجابة مع الاستمرار بالمقاومة.

ورغم ادراكنا ان الدور الحاسم في تحديد المسارات هو للنتائج التي ستخرج بها المواجهة التي تدور رحاها بأقصى ما يمكن من توحش وانحطاط من قبل العدو ، وصلابة وثبات من قبل المقاومة, فإن ذلك لا يلغي التنبوء بالطبيعة الاستثنائية للمرحلة المقبلة وما تنطوي عليه من تحديات مستجدة.

في الموقف : 

أعتقد أن  عملية طوفان الاقصى والمواجهات التي اعقبتها في غزة وفي الساحات الاخرى في لبنان واليمن والعراق ,انما هي حقبه تاريخية واستثنائية شديدة الاهمية في مسار الصراع بين المقاومة والعدو الاسرائيلي.

لا شك بأن الكلفة البشرية من أهلنا المدنيين في غزة باهظة وموجعة, لكنها من زاوية أخرى تعكس تطوراً كبيراً في طبيعة الصراع وتفاقم المخاطر التي تهدد الكيان الاسرائيلي, لذلك إن  هذه التضحيات لا تبذل في فراغ انما هي الثمن الذي يقرب من تحقيق الاهداف الكبرى.

إ ن  الافراط في التوحش تعبير عن المأزق الاسرائيلي, ودافع جوهري لتغيرات هامة في الرأي العام الدولي, وتعكس انهياراً في منظومة الاطر والاجراءات التسووية الغربية والاسرائيلية في حماية الكيان وتصفية القضية الفلسطينية والغاء أو اضعاف المقاومة.

وفوق كل ذلك, هي  تمثل انكشافاً خطيراً ومدوياً في عجز القدرات العسكرية الاسرائيلية عن حسم المعركة ميدانياً , رغم الاستنزاف الاقصى لهذه القدرات في المدى "دون النووي".

وعند هذه الحقيقة بالضبط, يولد الافتراق الامريكي – الاسرائيلي, بين المقاربة البراغماتية التي افضت الى القول بحل الدولتين, والمقاربة الأيديولوجية التي تقوم على الإنكار والإندفاع الى المجهول.

لذلك ورغم التحديات الي يفرضها الدمار الشامل في غزة ، والحاجة الى إيواء قرابة مليوني انسان, وتأمين مقومات الحياة لهم, فا ن  الكيان الاسرائيلي يبدو مهزوماً ، والمقاومة تبدو منتصرة, وكما يقول " كيسنجر " في تقويمه للتجربة الامريكية في فيتنام : "إن  احد المبادئ الاساسية لحرب العصابات هي ان حرب العصابات تفوز اذا لم تخسر ,والجيش التقليدي يخسر اذا لم ينتصر".

من ناحية أخرى, ثمة وجه شبه مع التجربة التي مرت بها المقاومة في لبنان في حرب تموز 2006, رغم الفارق في حجم الدمار والخسائر البشرية, وفي طبيعة الساحتين, فالقرار 1001 الذي شكل التتويج السياسي للحرب, لم يكن متوازناً ولا متلائماً مع نتائج الحرب, بل إ ن  هذه النتائج في حقيقة الامر ومن الناحية الواقعية ومن زاوية انتصار المقاومة, فرضت تفسير اً آخر للقرار وضعه في سياق تطبيقي مختلف, من حيث الاجراءات ومن حيث الأبعاد القانونية, الامر الذي أتاح للمقاومة أن تنمو وان تتراكم قوتها وتزداد فاعليتها وان يتعمق حضورها في النطاق الجغرافي المحكوم بالقرار, على النحو الذي يتناقض مع الوظيفة الاساسية التي وضع القرار من أجلها.

ولهذا علينا ان نتوقع بأن المخرجات السياسية والقانونية التي سيتم وضعها من قبل الدول الغربية والمؤسسات الدوليةوالتي لن تكون منسجمة البتة مع نتائج الحرب في حال هزيمة العدو وانتصار المقاومة, لن تكون من الناحية الواقعية قادرة على الحؤول دون استمرار المقاومة وتناميها وتعزيز قدراتها وفاعليتها, او فرض مسارات استراتيجية وحمايتها ,خارج إرداة المقاومة والشعب الفلسطيني.

 لذلك من الضروري أن يتم صياغة موقف المقاومة في فلسطين بوصفها منتصرة, وباذنه تعالى هي كذلك. 

إن  الموقف المنتصر, يستدعي من حيث الخطاب مقاربة التحديات بثقة أكبر, وهذا يتيح الاستناد الى مساحة مدروسة بين الخطاب الايديولوجي والخطاب السياسي .

ان  الخطاب الايديولوجي يجب أن  ي حافظ عليه في وظيفته التعبوية المعهودة, الا أ ن  الخطاب السياسي يجب ان يتسم بالحكمة والواقعية والمسؤولية والعقلانية التي تمرحل الصراع وتنوع أدواته وتراكم المكتسبات, على النحو الذي ينتزع من أعداء المقاومة بعض أدواتهم التي يستخدمونها ضد المقاومة.

لقد أكد أداء المقاومة في موضوع الاسرى بالاضافة الى مجمل المواجهة , كم هي مهمة صورة المقاومة وكم هو مهم دور الرأي العام العالمي .

وقد بدت المقاومة بالفعل متفوقة على العدو في معركة الصورة عندما قدمت أداءً  نبيلاً في موضوع الاسرى, وأظهرت انضباطاً انسانياً وأخلاقياً هو في الاصل من صميم الرؤية الدينية.

ثمة أهمية جل  ية,في ارتكاز الخطاب السياسي الى منطق الحقوق الكاملة, وفي طليعتها حق العودة والسيادة وتقرير المصير والحرية، وتوظيف بعض القرارات الدولية التي تهدد فعلا ً مرتكزات الكيان الاسرائيلي.

في نظرية المقاومة : 

إ ن  النظريات هي بناءات من الأفكار والمفاهيم القابلة للإختبار والتطوير بحكم التجربة .فالأفكار والمفاهيم تؤدي دوراً أساسياً في انتاج الواقع, ثم يعود الواقع في سهم في إعادة انتاج الأفكار, لذا فالعلاقة بين الافكار والواقع علاقة جدلية وتفاعلية معقدة...

وهي لا تنحكم من الناحية النظرية الى دينام  يات بسيطة بل غالباً ما تكون متعرجة وأحياناً مضطربة تبعاً لطبيعة الظواهر واختلافاتها.

أعتقد ان تجربة طوفان الاقصى وما أعقبها من مواجهات في غزة وفي الساحات الاخرى .

هي من الغنى والوضوح بحيث ستدفع نظرية المقاومة الى مزيد من التعميق والتكامل, وهي أضاءت على آفاق كانت لا تزال غامضة في مستقبل الصراع.

انها المرة الاولى في مسار الصراع بين المقاومة والعدو الاسرائيلي التي  ت فتح فيها جبهات متعددة في آن واحد, والمرة الثانية بعد حرب تموز 6002 التي تخاض فيها حرب تدميرية واسعة وتشهد التحاماً مباشراً ميدانياً معقداً.

في تصنيف مستويات التعاون بين القوى المقاومة ، يمكن الحديث عن مستويات ثلاثة تتدرج صعوداً من التنسيق الىالتكامل الى وحدة الساحات.

 واغلب الظن ان ما يجري راهناً على مستوى الجبهات المتعددة المفتوحة في مواجهة العدوان الاسرائيلي, يندرج في اطار التكامل بين الساحات, وهو حتماً تجاوز مرحلة التنسيق, لكنه ربما لم يبلغ بعد وحدة الساحات .

إ ن هذا التصنيف يستند الى معايير محددة ترى في التنسيق حالة من تبادل الخبرات والدعم اللوجستي والتشاور في المجالين القيادي والميداني, بينما يقوم التكامل على معيار المؤازرة الميدانية وتوزيع الادوار في سبيل إنهاك العدو وإستنزافه ومنعه من تحقيق اهدافه في اطار لا يتجاوز خصوصية كل ساحة وظروفها الحاكمة .

أ ما وحدة الساحات فهي حالة متقدمة تتجاوز كل خصوصية في اطار معركة كبرى هدفها هزيمة العدو استراتيجياً. 

وفي حين يأخذ المستوى الاول بعداً تقنياً وتكتيكياً, يأخذ البعدان الثاني والثالث أبعاداً استراتيجية وتترتب عليهما نتائج حيوية ومصيرية.

ان التطور الطبيعي في مسار المقاومة بعد عملية طوفان الاقصى ومعركة غزة, هو العمل على الانتقال من تكامل الساحات الى وحدتها, وهذا الانتقال يستدعي وعياً تاريخياً وادراكاً عميقاً للتحولات والتحديات والعقبات. 

اذ ان لا تكافؤ اً استراتيجي اً مع العدو خارج معادلة وحدة الساحات, وإن  المواجهة الاستراتيجية مع العدو هي فعلياً مواجهة في الآن ذاته مع حلفائه الغربيين وتحديداً الولايات المتحدة, وان التعقيدات السياسية التي تعيشها كل ساحة مواجهة والتي عبرنا عنها بالخصوصية المحلية هي عقبات سياسة لا يجوز إغفالها رغم القدرة على تجاوزها .

مع معادلة وحدة الساحات يبلغ التاريخ المقاوم ذروته وتنفتح فيها الخيارات على مصراعيها وتستهلك فيها كل ادوات المواجهة, وهي تنطوي على مستوى من الضراوة والتدمير غير مسبوق, ولأنها كذلك, فهي تستدعي حسابات ميدانية وسياسية دقيقة ومعقدة, الامر الذي يجعل منها حدثاً غير وشيك بانتظار لحظة تقاطع عوامل جيوستراتيجية استثنائية.

في معادلة وحدة الساحات, وفي مواجهة عدو يمتلك قدرات نووية ومدعوماً على نحو الشراكة, من الولايات المتحدة الاميركية, يشكل الداخل الفلسطيني في الضفة وأراضي ال 84 بالدرجة الاولى, ركيزة المواجهة ونقطة الثقل فيها ,والتي تمتلك اهمية استثنائية لأ نه من الضروري إدخال العدو في حالة من الفوضى الامنية والاستهداف المتكرر, بما يشبه الحرب الاهلية, في الوقت الذي يواجه فيه جبهات حدودية ضارية .

ربما إن اطلاق هذا المسار والاستعداد له, يجب ان يكون مهمة محور المقاومة بدءاً من اليوم التالي لحرب غزة, في الوقت الذي ينشغل فيه كل الذين يعادون المقاومة, في البحث في اليوم التالي عن أية صيغة انتقالية للحكم في غزة وعن الصيغة النهائية لانهاء القضية الفلسطينية, حماية ً للكيان من المخاطر الوجودية التي تتهدده.

مع حرب غزة تاخذ نظرية الحروب اللامتوازية بين الجيوش التقليدية والقوى غير النظامية أبعاداً جديدة ، او يجري تأكيدها على نحو اكثر وضوحاً, فالتفوق في القدرات التدميرية للجيش النظامي لم يعد حاسماً البتة في انهاء الحرب او تحديد نتائجها, كما ان التفوق التكنولوجي والتسليحي بات محدود التأثير في مواجهة حلول مبتكرة وخلاق ة وصناعات عسكرية محلية شبه بدائية لكنها شديدة التأثير .

لقد بدا أن  من يملك باطن الارض قادر على مواجهة من يملك السماء, وأ ن  القول الفصل في نهاية المطاف هي للميدان ,حيث تتفوق الارادة مع التخطيط على التكنولوجيا مع التخبط والوهن .

في هذا المشهد تكاد تكون حاضنة المقاومة الشعبية هي العامل الاكثر اهمية فهي الركيزة التي تستند اليها عوامل النجاح ونقاط القوة .

إن استعداد الشعب للتضحية وقدرته على التحمل وصبره على المعاناة وايمانه العميق والراسخ بقضيته وحقوقه هو البنية التحتية للانتصار.