التفاصيل
في يوم شهيد حزب الله، نخرج من رتابة العيش إلى رحابة الحياة، ومن دونيّة الأوهام إلى واقعيّة الرؤية والتعامل وإلى جلال الآمال وصدقيَّة مرتكزاتها.
الشهيد في اعتقادنا ليس نبيًّا ولا إمامًا معصومًا، لكنّه إنسان متميّز في وعيه للحياة والوجود، وصدقيّة التزامه بالقيم التي تمنح الحياة معناها الحقيقي، وفي جدِّيّة تحمّله للمسؤوليّة الإنسانيّة والإيمانيّة تجاه نفسه ومجتمعه وتجاه كلّ مساحة يقدِّر فيها أنّه قادرٌ على الإسهام في حفظها وإصلاحها وتطوير أوضاعها، سواء كانت حيًّا أو بلدةً أو وطنًا أو منطقة أو قارّة أو العالم.
وسواء كان الإسهام جزئيًّا أو كاملًا، فإنّ الأهم فيه هو أن تحكمه رؤية تحترم الإنسان وموقعه ودوره وعلاقته مع الوجود، بدءًا من خالقه وامتدادًا نحو كلّ مفرداته وظواهره ومكوِّناته، خصوصًا منها عالم البشر أفرادًا وجماعات ومجتمعات وأممًا، وحَمل همّ تحريرها وإصلاح أوضاعها وتنظيم فعالياتها وعلاقاتها وتطوير شؤونها.
والشهيد وفقًا لهذا الاعتقاد إنسان رائد رؤيوي فعّال وحيوي مجانب للأنانيّة ومظاهر الفساد، مجافٍ للمنفِّرات الإنسانيّة من صفات الطمع والبغض والكراهيّة والإلغاء للآخرين. والأهم أنَّه صاحب إرادةٍ حرّةٍ وعزمٍ وتصميم.
لذلك ينغرس في انطباعات البشر عمومًا أنَّ الشهيد هو من سلالة الأنبياء اتّباعًا والتزامًا لا نسبًا أو امتدادًا رحمِيًّا. وبناءً على ذلك، يتصدَّر في المجتمعات الإنسانيّة، والإسلاميّة خصوصًا، موقع المثل والمثالِ. وكيف لا يكون كذلك، وهو الذي وَهَبَ كلّ وجوده من أجل الآخرين حبًا لهم وحرصًا عليهم وعلى مستقبلهم، واسترخص أغلى ما لديه للدفاع عنهم وحماية وطنهم وحفظ حقوقهم وتحقيق مصالحهم.
هذا الاستعداد للسخاء الفيّاض ومعه صدقيّة الممارسة، يمنحان الشهيد رؤية استشرافيّة وحساسيّة مرهفةً ضدّ كلّ مؤشرات الظلم والتسلط والعدوانيّة والنزعة الإلغائيّة والسلوك العنصري والاستكباري لدى الأعداء الذين يمثِّلون في الواقع النقيض التام لما عليه الشهداء من مواصفات وقيم ودوافع وتطلُّعات.
واعتقادنا أنَّ الدِّين بما يمثله من صلةٍ بين الله والناس هو أفضل المناهج التي تعبِّر عن موقعيّة الشهيد في الحياة وعن المحفزات والمآلات التي تنتهي إليها عطاءاته في الواقع الدنيوي كما في الحياة الآخرة.
والمجتمع الأكثر نماءً وصلاحًا واحترامًا لأفراده وتأثيرًا في علاقاته والأكثر أمنًا واستقرارًا وطمأنينةً نفسيّةً وانفتاحًا على التفاعل مع الأفكار والسلوكيّات بواقعيّةٍ ورصانةٍ، من دون انجرارٍ أو حتّى معاندة، والأشد تماسكًا والتفافًا وقوّةً واستعدادًا للدفاع والحماية للقيم فضلًا عن الوجود، هو بالتأكيد المجتمع المكتنز لمشاريع الشهداء من أبنائه وأفراده.
ولعلَّ أخطر المُثَبِّطات الشائعة التي يروِّج لها الطغاة لإطالة أمد تسلُّطِهِم وجبروتهم، هو استلاب إرادة النهوض والتحرر والكرامة من نفوس الشعوب وتنميط عيشها وفقًا لمعادلات الرضى بالأمر الواقع، والقناعة بالعجز عن تغييره، ومجاملة المستبدين الفاسدين، والتسابق إلى نيل الحظوة عندهم والانخراط في مشاريعهم.
والشهداء هم أكثر أفراد المجتمع حصانةً ضدّ هذا السلوك الانهزامي الذي يُشكِّل دعامةً أساسيّةً للغزو الأجنبي أو السيطرة المعادية. والشهداء كذلك هم صوت الإنسانيّة النبيلة، المنبِّه إلى وجوب وإمكانيّة تغيير الواقع ورفض العيش الذليل، والخضوع لمنطق التسلط بالقوّة والإرهاب، والإذعان لإرادة الأشرار وقوى الظلم والاستئثار والطغيان الأناني والعنصري المقيت.
الشهيد الأسمى سماحة السيد حسن نصر الله، وسماحة السيد هاشم صفي الدين، وكلّ الشهداء القادة والمجاهدين الذين قضوا في مواجهة العدوّ الصهيوني وضدّ حربه العدوانيّة على لبنان أو حربه الإباديّة لغزّة فلسطين... وكذلك كلّ الشهداء الذين قضوا في مسيرة جهاد المقاومة الإسلاميّة، بدءًا من أحمد قصير فاتح عهد الاستشهاديين إلى كلّ نظرائه منفذي عدد من العمليات الاستشهاديّة والنوعيّة وشهداء المواجهات والاقتحامات والكمائن، والشهداء القياديين من الجيل المؤسس كشيخ الشهداء راغب حرب وسيد شهداء المقاومة السيد عباس الموسوي وزوجته وطفله، وكلّ شهداء شعبنا الأبي والمقاوم والحاضن والمضحي والصابر الذي قدَّم وبذل للدفاع عن لبنان وكلّ مكونات شعبه، عدد من أبنائه الشهداء والجرحى والأسرى الذين لا يزال بعضهم في خضم المعاناة والمكابدة لآلام الجرح والقهر... كلّ هذه القافلة المباركة لا تضم أرقام خسائر للمقاومة الإسلاميّة بقدر ما تُراكمُ ذخائر ترشيد وتحفيز وهداية لمواصلة المهمات وإنجاز الواجبات والتحوُّط ضدّ أسوأ الاحتمالات وصولًا إلى ميقات النصر الأكيد، يوم لا يجد الأعداء لهم عاصمًا من أمر الله.
فور تنفيذ عمليّة طوفان الأقصى التي صدّعت الكيان الصهيوني وكشفت مستويات الإخفاق لديه، كانت المؤشرات والوقائع تدل بغالبيّتها إلى أنّ العدوّ الصهيوني، والحاضنة والراعية الأميركية والغربيّة لكيانه الغاصب، سيتعامل مع تلك العمليّة على أنّها تهديد وجودي له ولمصالح الغرب المستكبر في منطقتنا، وأنّ الرد لن يقتصر على استهداف الجبهة المنفذة، وإنما سيطال كلّ حركات المقاومة الناشطة في فلسطين وحولها، وفي مقدمة تلك الحركات بشكلٍ مؤكد المقاومة الإسلاميّة في لبنان، لما تمثِّل من قوّة استنهاضٍ لكل حركات المقاومة في المنطقة من جهة، ولما كان يحضر لها العدوّ منذ هزيمته على يديها عامَي 2000 و2006، ولما كان يستشعره من إمكانيّة لديها وتحضيرات تستهدف الضغط الميداني عليه في شمال كيانه المحتل.
ولذلك كان من البديهي والطبيعي أن تظهر المقاومة الإسلاميّة للعدو الصهيوني جهوزيتها ويقظتها إزاء ما يخطط له، سواء كان سيقرر البدء بعدوانه ضدّ غزّة أولًا ثمّ لبنان، أو أنَّه سيعتمد أولويّةً أخرى.
وبناءً عليه لا يعود هناك محلٌ لمزايدة بعض الكيانيين اللبنانيين ولقولهم إنّ المقاومة الإسلاميّة اتّخذت قرار بدء الحرب على العدوّ الصهيوني، ذلك أنّ العدوّ نفسه لم يُخفِ، لا هو ولا رعاته الدوليين، نيتهم الاستفادة من عمليّة طوفان الأقصى لتوظيف تنفيذها ونتائجها للتخلص من كلّ الوجود المقاوم في المنطقة...
ومع ذلك، التزمت المقاومة الإسلاميّة إشغال العدوّ على جبهة لبنان من دون شنّ حرب شاملة ضدّه لم تكن ترى مصلحة فيها للمقاومة وللبنان لمعرفتها الدقيقة بكثيرٍ من المعطيات المانعة من توقع نتائج مرضية وحاسمة.
وقد يسلِّم الكثيرون بواقعيّة قرار المقاومة الإسلاميّة آنذاك، وإن كان بعضٌ آخر يرى، مع تسليمه بتلك الواقعيّة، أنّ أداء المقاومة وبعض خطابها السياسي آنذاك بالغ إلى حدٍ ما في طمأنة العدوّ "الإسرائيلي" عن غير قصد إلى عزم المقاومة على تجنُّب الحرب الشاملة ضدّه.




