التفاصيل
قبل الثورة الإسلامية في إيران، لم يكن هنالك يوم للتعبئة الجماهيرية من أجل تحرير القدس وسائر فلسطين عبر تعميق موقعها في الوعي العربي والإسلامي. بعد تلك الثورة، أصبحت جميع الأيام للقدس. ولم يعد يمر يوم في إيران والمنطقة دون أن تكون القدس حاضرة في أبرز أحداثه. فالواقع أن جميع التطورات السياسية والحروب التي شهدتها المنطقة منذ تفجر الثورة الإسلامية لا يمكن أن تفهم إلا بما هي حلقات في معركة تحرير القدس وسائر فلسطين بما هي الأرض المباركة حول المسجد الأقصى.
لقد حالت ظروف معروفة دون اضطلاع العالم العربي بمهمة العمل من أجل فلسطين. المسيرة الهابطة لتاريخ الإمبراطوريات والدويلات الإسلامية والعربية مهدت لنكبة فلسطين عام 1948 . وهزيمة العام 1967 وبعدها وفاة عبد الناصر، ألحقتا مصر بصف عرب أميركا، وبالتالي في صف الباحثين عن موقع في ظل الهيمنة الإسرائيلية-الأميركية. حتى الثورة الفلسطينية التي شاءت لنفسها أن تكون الرد الحاسم على الهزيمة لم تلبث أن التحقت، من خلال فصائلها الأكثر فاعلية، بصف اتفاقيات السلام وتصفية القضية الفلسطينية.
وفي حين كانت سوريا وحدها تجدف ضد التيار العربي الاستسلامي الجارف، جاءت الثورة الإسلامية في إيران لتبدأ من حيث توقف الحراك العربي نحو التحرير. فمن بلد كان يقوم، في ظل حكم الشاه، بدور الهراوة الأميركية-الإسرائيلية المسلطة فوق رؤوس العرب، تحولت إيران الثورة، بقيادة الإمام الخميني، إلى بلد أعاد مسألة تحرير فلسطين إلى الواجهة ووضع القدس والمسجد الأقصى في طليعة ما يسعى إلى تحقيقه من أهداف.
هذا الموقف، وليس الخلاف على شط العرب، هو ما يفسر الحرب التي فرضها صدام حسين على إيران بدفع ودعم كبيرين من معظم الدول العربية والغربية. يومها، اعتبرت أوساط غربية عديدة أن العراق هو خط الدفاع الأول في وجه إيران، ليس فقط عن الكيان الصهيوني، بل أيضاً عن أوروبا نفسها.
وبالرغم من كل ما عانته من شدائد طيلة تماني سنوات من الحرب وما رافقها من حصار وتضييق، لم تتراجع إيران عن المضي قدماً في سياساتها المناوئة للهيمنة وخصوصاً في احتضان القضية الفلسطينية، مع كامل علمها بأن مثل هذا التراجع كفيل بأن يفتح أمامها كل أبواب الحظوة على المستويين الإقليمي والدولي.
ومن هذا المنطلق، عملت على تعزيز تحالفها مع سوريا لمساعدتها على الصمود في وجه ما تتعرض له من ضغوط بهدف إجبارها على الالتحاق بقافلة الاستسلام العربي. كما قدمت، بالمشاركة مع سوريا، دعمها اللامحدود لحزب الله في لبنان، وهو الدعم الذي سمح بتحرير المناطق اللبنانية المحتلة من قبل الكيان الصهيوني عام 2000، ثم بإنزال الهزيمة بجيش هذا الكيان في صيف العام 2006. كما قدمت دعماً مماثلاً للفصائل الثورية الفلسطينية التي سجلت بدورها انتصارات مهمة في غزة. وبذلك انتقلت قضية تحرير القدس وسائر فلسطين من دائرة الحلم إلى دائرة الممكن الملموس.
وليس من قبيل الصدف، أن يأتي الغزو الأميركي-الأطلسي الممول بدولارات النفط الخليجي، لأفغانستان عام 2001، والعراق 2003، وما رافقه من نشر للقواعد العسكرية الأميركية والغربية في المنطقة كرد على انتصارات المقاومة، وكمحاولة لتطويق إيران من جميع الجهات، في وقت بدا من الواضح فيه أن زمن الانتصارات الإسرائيلية قد ولى إلى غير رجعة، وأن الهيمنة الإسرائيلية-الأميركية على المنطقة قد دخل في مرحلة العد العكسي.
لكن الحرب على أفغانستان، وعلى العراق، منيت بالفشل ولعب الدعم الإيراني والسوري للمقاومة العراقية دوراً مهماً في تحقيق هذه النتيجة. والأكيد أن انتصارات المقاومة في لبنان وغزة واستمرار إيران في تسجيل الإنجازات الباهرة على جميع مستويات البناء الاقتصادي والسياسي والعسكري والعلمي، قد أثار هلع قوى الهيمنة وأدواتها الإقليمية، ودفعها إلى استحداث استراتيجيات جديدة في مقدمتها إثارة الفتن الداخلية وخصوصاً الفتنة الطائفية.
وهكذا، ظهرت الجماعات التكفيرية الإرهابية المدعومة بأشكال مباشرة وغير مباشرة من قبل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وأدواتهما الإقليمية لتشكل، في حربها على سوريا والعراق وإيران وحزب الله، خط دفاع جديدا عن الكيان الصهيوني وعائقاَ أمام المسيرة الظافرة نحو تحرير القدس وسائر فلسطين.
لكن هذا العائق لن يتمكن، رغم قدرته على التخريب والإرباك، من تحقيق أهدافه، لأن بيئته الحاضنة تعيش حالة من التخبط في أزمات بدأت تدفع باتجاه يقظة الوعي والتمييز بين الأعداء والأصدقاء. وما التظاهرات الحاشدة التي خرجت في بلدان كمصر واليمن وفلسطين والسودان وموريتانيا وباكستان وأفغانستان وغيرها لإحياء يوم القدس والتنديد بأميركا والكيان الصهيوني غير تعبير عن تلك اليقظة.